ما زلت أعتقد أن نهضة الأمة، أي أمة كانت لا بد أن تبدأ من التربية والتعليم، والتربية تسبق التعليم بلا شك، فالتربية هي تمهيد التربة الإنسانية وجعلها صالحة للزراعة، ولا يمكن للتعليم أن ينجح إلا في تربة صالحة من التربية، ولو قارنا بين متعلم غير متربٍ ومتربٍ غير متعلم لرأينا الفرق واضحًا.
واليوم تنفق بعض الحكومات العربية الإسلامية ميزانيات هائلة على التعليم دون التفات إلى التربية، بل أنه تناهى إلي -ولستُ متأكدًا- أن بعض الدول العربية ألغت مسمى وزارة التربية والتعليم وغيرتْه إلى مسمى وزارة التعليم فقط، وهذا لعمري شيء عجيب.
ولأن طبيعة عملي تتعلق بالتعليم والتدريب عموما، فإنني على احتكاك بكثير من المتعلمين ومن يتابعون التعلم، وهذا لا شك من نعم الله عز وجل أن أقامنا في هذه المهمة، وهنا لا أخفيكم أنه كثيرًا ما تخطر على بالي جدتي -والدة أبي- رحمها الله تعالى، بل أنني في أحد النقاشات مع بعض الزملاء، قلت لهم صراحة أنني أعتبر جدتي أفضل بكثير من جل هؤلاء المعلمين والمتعلمين، بما فيهم أنا، وقد حفرتْ في ذاكرتي مواقف لا أستطيع أن أنساها ما حييت وتركتْ فيّ أثرًا بليغًا.
جدتي، التي ما زلت أراها في بعض الأحيان في منامي وكأنها ما زالت على قيد الحياة، عاتبة علي بسبب قلة زياراتي لها كانت، شبه أمية، والشيء الوحيد الذي كانت تجيد قراءته كان المصحف الكريم وتستعين على ذلك بنظارات مما يستخدمه كبار السن، كلما أتيحت لها الفرصة.
جدتي، رحمها الله كانت بأفعالها وأقوالها، من أشد المناصرين لمبدأ التربية قبل التعليم، فهي وإن كانت تسألنا دائمًا باهتمام عن التقدم الذي أحرزناه في المدرسة وتعتب علينا إن قصرنا، إلا أنها لم تكن لتسامح أو تغفر أي هفوة تربوية ولو كانت بسيطة قد تصدر عن أبنائها أو أبناء أبنائها.
كم كانت تردد علينا بعض الأمثال التي تزرع قيمًا جميلة كالإيثار والكرم وحب الوطن وكانت تكررها في كل مناسبة حتى لا ننساها. أمثالاُ جميلة بلغتنا المحكية تزرع في أنفسنا معاني عظيمة، كانت تقول “لاقيلي ولا تطعميني” أي حسن استقبالك يكفيني عن كرم الضيافة، وتقول يا بني “المنطق سعادة” أي أن حسن القول واختيار العبارات الجميلة والمهذبة نعمة من نعم الله يهبها لمن يشاء وكانت تقول “زيوان البلد ولا قمح الغريب” و “اللي بيطلع من داره بيقل مقداره”، في الترغيب بالتمسك بالوطن رغم شظف العيش.
كم كانت تعتني بالأزهار في حديقة بيتنا وتغضب أشد الغضب إن اعتدى عليها أحدنا، وكم كانت شديدة عندما يتعلق الأمر بمظهرنا ونظافتنا ونظافة بيوتنا.
كم كانت تحذرنا من “أولاد آدو” أي أصدقاء السوء وتقول لنا “يا بني الصاحب ساحب”.
كم كانت شديدة على أمهاتنا إذا لاحظت أي تهاون في أي جانب من جوانب التربية والسلوك، على أن أمهاتنا كانوا كمثلها، وأحيانًا أشد.
ولها موقف مشهور عندما رأت إحدى بنات العائلة والتي حصلت على درجة دكتوراه من بلد غربي و لم يكن لباسها محتشمًا، فقالت لها “أخاف على هذا العنق وهذه الزنود من النار، فما ينفعك علمك؟!”
واليوم تواجهنا تحديات جسام في ظل غزو تقني وصل إلى كل بيت من بيوتنا وكل طفل من أطفالنا بالرغم عنا، حاملاً معه كل غث وثمين، فماذا أعددنا له؟ اليوم ينال شبابنا أعلى المراتب العلمية، وما زال ينتشر فينا الفساد والرشوة والعمالة والكذب والخيانة، فهل فعلا سنصل إلى النهضة المرجوة؟
كم أتمنى اليوم أن يتحلى المعلمون بأخلاق جدتي، فيغرسوا في نفوس طلابهم الحكمة والتربية والأخلاق قبل أن يبدؤوا بغرس العلم، وكم أتمنى أن تخصص هذه الحكومات موازنات للتربية أعلى من موازنات التعليم وأن يكون هذا جزءًا من النظام التعليمي وخاصة في المراحل الابتدائية التي ينفق فيها الطالب جل وقته بين زملائه ومعلميه في المدرسة.
كم أتمنى اليوم، وقد اغتربت مضطرًا في بلاد الله، أن أقف على قبر جدتي فأدعو لها وأدعو لمعلمينا أن يرزقهم طيبتها وإخلاصها وتربيتها.
رحم الله جدتي وجميع أموات المسلمين وجعلنا وإياكم ممن سخرهم الله لخدمة خلق الله ونفعهم، ودمتم سالمين.
الله يرحمها ويغفر لها ويجعل مثواها الجنة
التربية اساس الانسانية، متعلم غير متربي مثل شجرة خبيثة
اللهم آمين و رحم أمواتكم و أموات المسلمين أجمعين. صدقت القول، أخي م. شادي
الله يرحمها ويدخلها الجنة … سلمت يداك و لا فض فوك و حقا ما أحوجنا لجدتك
شكراً أخي م. ترنيم، سعدت بمرورك جداً