حدثني أحد الأصدقاء عن مقابلة عمل قام بها في إحدى الشركات الاستشارية العالمية، اعتبرها هو عجيبة، إذ لم يُسأل في هذه المقابلة عن خبراته وتاريخه المهني أو عن الدورات والشهادات التي حصل عليها، بل تمحورت كل الأسئلة التي تمت على ثلاثة مراحل ودامت أكثر من ثلاث ساعات إجمالًا عنه كشخص وإنسان، وهو ما نسميه behavioral questions. أسئلة من النمط التالي:

  • ما هو أول شيء تفعله عندما تستيقظ صباحًا؟
  • ما هو الشيء الذي تفكر به وأنت عائد من العمل مساءً؟
  • إذا طلب منك مديرك القيام بعمل ما، وأنت تعتقد أن هذا العمل خاطئ، كيف تتصرف؟
  • ماذا يعني لك “الكثير من المال”، وهلم جرًا؟

 

ذكرني هذا بإحدى مقابلات العمل التي حضرتها مع أحد الصناعيين المعروفين في دمشق، من الأشخاص الذين تعودنا أن نطلق عليهم كلمة “حجي”. هذا الشخص كان يبحث عن مدير لتصدير منتجاته وتصادف وجودي كاستشاري في هذا اللقاء. استمر هذا اللقاء حوالي ٥ ساعات، حتى لم يعد في مكان العمل إلا نحن الثلاثة، وكنت بطبيعة الحال متفرجًا متململًا في البداية، ثم مفكرًا محللًا في النهاية.

 

لم يسأل “الحجي” هذا الشخص عن خبراته وأعماله السابقة باستفاضة، بل تركزت المقابلة عن من أنت، ومن هي عائلتك، وأين ترعرعت، ومن تعرف من العائلة الفلانية، وهل قابلت الشخص الفلاني، حديث اجتماعي جدًا جدًا، انتهى بأن قرر لي “الحجي” أن هذا الشخص لا يصلح للعمل. الحقيقة أن “الحجي” كان يفحص “طينة” هذا الشخص ويبحث عن صفات محددة مثل الكرم، الشجاعة، الثقة، القدرة على اتخاذ القرار، الوفاء للعمل… وبخبرته الاجتماعية يعرف “الحجي” العوائل والمناطق التي تتوزع فيها هذه الصفات زيادةً ونقصانًا، ومن يستطيع أن يسأل عن هذا الشخص ممن تعاملوا معه أي ما نسميه references.

 

لعل “الحجي” سبق الشركات الاستشارية العالمية بفطرته، في أن المهم عند توظيف الشخص هو من يكون، أما ماذا يتقن هذا الشخص فيأتي بالدرجة الثانية من ناحية الأهمية، لأننا نستطيع أن نعلمه ما يتقن، إذا كان كما نريد.
و بما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد كنت منذ زمن طويل أرغب بالكتابة عن التواصل الواثق Assertive Communication، ولست متأكدًا من دقة ترجمتي لكلمة assertive فهي تحمل معاني كثيرة من ضمنها الحزم، ودور وأهمية هذا التواصل في الحياة العملية والشخصية.

 

الكثير من الدراسات تصنف أساليب التواصل إلى أربعة، سأشرحها باختصار:

  • التواصل الانعكاسي (السلبي) Passive Communication هذا النوع من التواصل يكون عند الأشخاص المهزوزين والفاقدين للثقة بأنفسهم، حيث يميل هذا الشخص إلى التردد، ويوافق عموما على كل ما يقوله الآخرون ويبدو دائمًا بحالة من العجز والاستسلام.
  • التواصل العدواني Aggressive Communication وهو على عكس الأول، يظهر هذا الشخص ميلا إلى فرض آرائه على الآخرين وعادة ما يعتمد أسلوب الصراخ والكلام العالي لإثبات وجهة نظره ويحاول دائمًا إحراج الآخرين ولا مشكلة لديه في الاعتداء على حقوقهم.
  • التواصل الانعكاسي العدواني Passive-Aggressive Communication وهو أسوأهم على الإطلاق، إذ يظهر هذا الشخص أمام الجميع بمظهر الانعكاسي، لكنه في الحقيقة يضمر العدواني، فيحاول إيذاء من حوله بطرق مخفية ويحاول أن يسيطر اعتمادًا على التملق لأصحاب القرار والوشايات.
  • التواصل الواثق، أو الحازم Assertive Communication يتميز هذا الشخص بإدراكه الدقيق لنقاط ضعفه ونقاط قوته، يعبر عن رأيه بثقة ويسمح للآخرين بالتعبير عن آرائهم، يميل إلى البحث عن الحلول الوسط، لا ينسحب بسهولة ولا يسمح للآخرين بمصادرة رأيه. هذا الشخص هو أهم ما تبحث عنه وتحتاجه بالفعل المؤسسات التي تسعى للنجاح. هذا الشخص لا يخشى أن يقول لمديره “أعتقد أن هناك طريقة أفضل في العمل” و”لنجرب أسلوبًا آخر”. هذا الشخص حتى لو اضطر للقيام بالعمل حسب التعليمات المعطاة له، سوف يسجل رأيه قبل أن يقوم بذلك وربما يتقدم بالاستقالة بعدها.

 

المؤسسات الناجحة اليوم لا تبحث عن نسخ مكررة عما يقوله المدراء في الإدارات العليا، بالعكس هي تبحث عمن ينتقد بهدف التصحيح والتطوير المستمر والذي هو أحد أعمدة الجودة المستدامة.

 

حدثني أيضًا أحد الأصدقاء فقال لي، اتخذت بيني وبين نفسي قرارًا بترك عملي، فكانت النتيجة مرعبة إذ تحسن أدائي كثيرًا لأنني لم أعد أخشى على عملي، فصرت اتخذ قراراتي وأقوم بعملي بعيدًا عن “الخوف” الذي كثيرًا ما جعلني مترددًا مترقبًا.

 

عزيزي القارئ، نصيحتي لك تمسك بهذه القيمة، قيمة “الشجاعة” فكثير من المؤسسات اليوم تضيفها إلى قيم العمل الأساسية لديها، وسيحالفك التوفيق بإذن الله تعالى في حياتك المهنية وحتى الشخصية.

 

12 thoughts on “من أنت؟

  1. في البداية شكراً لك على المقال.. فيما يخص اساليب التواصل التي ذكرتها في مقالك فهي فعلا موجودة ويمكن ملاحظتها في المجتمع، انا برأيي من اقوى المهارات المطلوبة في الحياة هي تحديد جرعة الفعل ورد الفعل لموقف ما وهاد يتطلب معرفة الذات وفهم تصرفات الآخرين ومن ثم التجاوب بمايتوافق مع الموقف بالدرجة التي تعطي نتيجة ايجابية، وهو ما يفتقده الكثير من الناسب، فعند الانتقاد يصنف الكثيرين أنهم يبالغون بردات فعلهم على منتقديهم، وآخرون لا يمتلكون القدرة على مواجهة الآخرين رغم انهم على حق.. لقد اجتمعت ببيئة العمل بجوانب السلون التي ذكرتها وكان من اذكاها وتلونها شخصية passive & aggressive communication ويستطيع ان يتلون بالوجه الذي تريده وكان هذا الشخص يلعن ويسب ويشتم الظالمين على وجه الآرض وعندما يحتك معهم يظهر الطاعة والانسجام معهم وكأنهم احباءه. فيما يتعلق بالمقابلات الوظيفية ومعرفة انواع الشخصيات فالأمر متشعب وتكمن اهميته على مدى حاجة الوظيفة لسلوكيات معينة.. نعم من الاساليب الحديثة في المقابلات تبنى على اساس competency behivorl interview ولها اساليبها التقنية لاستكشاف السلوك .. امثلة الحجي ناجعة فعلاً ولكنها تناسب المجتمعات المنغلقة حيث الجميع معروف للاخر ولكنها لا تناسب الحداثة في المقابل نجد موضوع الـ reference هام جدا وخصوصا في المناصب العليا والامثلة كثيرة فأنت ترغب ان تعلم ما هو الاثر الذي تركه مشرحك في عمله السابق ..
    الكلام يطول في هذا الموضوع ويقد يسرد به صفحات وساعات من الحالات

      1. أحسنت أستاذ بيهس .. اوافقك تماما 100/100
        انا بصفتي صاحب عمل عانيت كثيرا من مشاكل تتعلق بالكوادر ..
        والحمد لله شفت كل النماذج من السلوك ..
        إلا التواصل الواثق اللي ذكرتو حضرتك ..

  2. مقال اكثر من رائع . يحوي بين السطور بعض خبرات الحياه الرائعة المفيدة
    شكرا لك م. بيهس السوادى
    تحياتى

  3. مقال رائع يحوي بين سطوره كلمات معبره رجعت بي للماضي وتعاملي مع التواصل العدواني والأنعكسي العدواني

    قصتي سابقاً
    عملت في احد الشركات المقاولات وكنت مسؤول على تنفيد احدى المشاريع ولاكن كان للأسف الهيكل الأداري متدني الي ابعد مايمكن .. القصه وهي كان المسؤول الأعلى مني يفرض اوامره مهما كانت بدون استشاره ودراسة للخطأ ,وكان هناك دائماً جدال بيني وبينه لكترة اخطاءه وللأسف عدم درايته بكتير من الأمور الهندسيه والأداريه رغم انه اكبر مني سناً بكتير وحتى سنوات عمله , حتى عندما اعارض على تنفيد احد الأعمال اجد العمال قامو بتنفيده رغم انهم يوقنون انه خطأ ولاكن بأوامر من المسؤول نفدوه حتى وصلنا لمرحله لاأحد يتحدت مع الأخر وكان الفرق بيني وبينه هو يريد ان ينجز المشروع باسرع مايمكن مهما كانت النتيجه وانا اريد انجز المشروع باعلى المواصفات واقل زمن وترك بصمه ناجحه من ورائي .

    فلم يكن بوسعي اللا ان اتخد قرار تقديم استقالتي والتي رفضتها الشركه بأقصى مايمكن وتوقفي عن العمل بهده الشركه رغم انه معظم الشركات في بلادي توقفت عن العمل ولايوجد فرصة عمل اخرى أمامي بسبب الظروف الموجوده في بلادي .
    وبعدها بمده صادفت أحد الأشخاص الدين كان يعملون معي بوضيفة مشرف حدتني عن هروب واستقالات العمال واحد تلو الأخر من بعدي حتى توقف المشروع .

اترك رداً على هاني مرعي إلغاء الرد

%d مدونون معجبون بهذه: